أسرار السيرة النبوية
السيرة النبوية حافلة بالأسرار، مليئة بالعبر.
ولعل من أعظم أسرار سيرة نبينا محمد-صلى الله عليه وسلم- أنها تمتاز عن سير سائر العظماء بأنها لا تُسْتَنْفَد مهما كتب فيها من كتب؛ فسير العظماء -على الجملة- يقوم بأمرها، ويغني في شأنها أن تكتب مرة أو مرات، ثم تستنفد معانيها، ويصير الحديث فيها معاداً مكروراً تغني فيه أعمال الأسلاف عن محاولات الأخلاف.
أما سيرة نبينا محمد-صلى الله عليه وسلم-فلقد عُني المؤرخون والرواة بها منذ صدر الإسلام حتى يومنا هذا، وصدر فيها كثير من الكتب في عدة لغات، ومع ذلك لم تخْلَق جِدَّتُها، بل إنها لتزداد -على كثرة ما يكتب فيها- جِدَّة وَرُوَاءَاً.
وليس ذلك -على خَطره- بدعاً من طبيعة الأشياء؛ فمحمد هو رسول الله، وخاتم النبيين، وقد أنزل الله إليه الكتاب؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور.
والناس المعنيُّون بهذا هم كلُّ الناس منذ بُعث حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وهؤلاء -بسنة الله في الكون- في تجدد دائم، وتطور متصل، تَجِدُّ لهم دائماً أحوال، وتحدث لهم أحداث يكون لها آثارها في معاشهم وعلومهم وتفكيرهم.
فليس عجباً أن يلتمس المؤمنون في الكتاب المنزل، وفي التفسير الحيّ لهذا الكتاب الذي عاشه خاتم النبيين بسيرته - هدياً لهم فيما يستقبلون كل يوم من شأن.
وليس عجباً أن يلتمس غيرُ المؤمنين في هذا الكتاب المنزَّل وفي تفسيره الحي من سيرة الرسول ما عسى أن يقعوا فيه على مسافة خُلف بين الدين والتطوُّر، أو بين الكتاب والسنة أو السيرة.
وكذلك عُنِيَ المؤمنون وغير المؤمنين بالسيرة عناية تختلف من حيث الحقيقة والخرافة، ومن حيث الإنصاف والجور.
والسيرة الشريفة -مع هذه العناية المتصلة- جديدةٌ خصبة، ملهمة موحية؛ لأنها الترجمة الحية العملية لمبادئ الإسلام العليا، فهي تتراءى للعقول والنفوس قوية مشرقة لم يُبلِ جِدَّتها تقادمُ العهد، ولا تطاول الزمان.
وما أكثر ما تَجنَّى خصوم الإسلام على سيرة نبيه جهلاً أو جحوداً بالحق، فلم ينالوا منها نيلاً، بل ربما دفع تجنِّيهم بعضَ الباحثين إلى العناية بها؛ تَلَمُّساً للإنصاف، وطلباً للمعرفة؛ فهدوا بذلك على الخير، أو شيء منه.
ولعل من صلاة الله على نبيه أن أوزع الناس هذه العناية بسيرته سواء منهم من أقرَّ به، أو من أنكر نبوته؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- نور، ومن عرف النور فقد شهد لنفسه بالاستبصار، ومن أنكره فقد شهد على نفسه بالعمى، والنور على الحالين نور.
وقد رفع الله ذكر محمد، فقرن اسمه باسمه في الأذان والصلوات، ووصفه في أكثر من موضع من القرآن بصفات تجعله في المرتبة التي لا تُنال.
(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف:157).
وليس مصدرُ العناية بالسيرة إرضاءَ حاجةِ العلم والدرس فحسب؛ فحاجات المؤمنين إلى هذا الينبوع من الحب والهدى أشد من حاجات العلماء إلى البحث والدرس، وكلُّ من في قلبه نفحة إيمان يجد نفسه مهما فرّط في الدِّين مشدوداً إلى محمد، راغباً في أن تزداد هذه العلاقة وثاقة.
وحب رسول الله من حب الله، فليس محمد -على شأنه الأجل- إلا بشراً رسولاً(1).
ومن أعظم أسرار السيرة النبوية أن لها أبلغ الأثر في تقويم السلوك، وتربية العواطف الشريفة؛ فإنها المرآة التي تنعكس منها تلك الصورة التي تعد -بحقٍّ- أرقى صورة للحياة البشرية؛ حيث كان النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- يرسم بأقواله، وأعماله، وسائر تصرفاته - القدوة العليا التي يجب أن تهدف إليها جهود البشر في سيرهم نحو الكمال المنشود.
إن ثلاثة وعشرين عاماً هي جملة السنين التي عاشها محمد-صلى الله عليه وسلم-نبياً رسولاً قد لا تكون في مقياس الزمن شيئاً مذكوراً إذا قيست إلى ما قضته البشرية من حقب متطاولة، وأجيال متعاقبة.
ولكنها في مجال التربية، والإصلاح، ورسم قواعد السلوك البشري الفاضل، ووضع المعالم، والحدود لحياة الإنسان كما يحب رب الإنسان، وبما يحقق الغاية من وجوده، ويكفل لها الحياة السعيدة الكريمة - لأرجح في الميزان من كل ما غَبَر من حقب وأجيال؛ ذلك أن بركات هذا النبي لا تكاد تحصر ولا تحصى(2).
وإن منها لبركة الوقت التي نال أمته منها أوفر الحظ والنصيب؛ فنالت من الأعمال، والعلوم، والأخلاق، والحكمة -في وقت قصير- ما لم تنله أمة من الأمم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: "فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحدَّ وأسدَّ عقلاً، وأنهم ينالون من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال"(3).
وقال –رحمه الله- في موضع آخر: "فهدى الله الناس ببركة نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وبما جاء به من البينات والهدى، هداية جلَّت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفة العارفين، حتى حصل لأمته المؤمنين عموماً، ولأهل العلم منهم خصوصاً من العلم النافع، والعمل الصالح، والأخلاق العظيمة، والسنن المستقيمة ما لو جمعت حكمة سائر الأمم علماً وعملاً الخالصة من كل شوب إلى الحكمة التي بعث بها لتفاوتا تفاوتاً يمنع معرفة قدر النسبة بينهما، فلله الحمد كما يحب ربنا ويرضى، ودلائل هذا وشواهده ليس هذا موضعها"(4).
ومن أعظم ما امتازت به سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها معلومة للناس بجميع أطوارها، متجلية لهم دخائلها من كل مناحيها.
ولا ريب أن ذلك من أعظم أسرار عظمتها وخلودها؛ إذ لا يصح أن تكون سيرة أحد من الناس قدوة لغيره إلا أن تكون واضحة معلومة منزهة عن العيوب والمثالب.
ولقد ضبط العلماء سيرته -عليه الصلاة والسلام- وأتوا على دقائق قد لا تخطر بالبال.
ولو استعرض القارئ فهرس أحد الكتب التي اعتنت بسيرته وشمائله لوجد ذلك واضحاً جليا(5).
ولهذا فإنه -عليه الصلاة والسلام- لم يكن ليتحرج من نقل ما يقوم به من أعمال حتى في داخل منزله؛ فترى -من جراء ذلك- كثرة الأحاديث التي ترويها أمهات المؤمنين عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ولم يكن ذلك إلا لأن سِرَّه كعلانيته، وظلمةَ ليلِه كضوء نهاره؛ فسيرته معلومة منذ ولادته إلى ساعة وفاته
السيرة النبوية حافلة بالأسرار، مليئة بالعبر.
ولعل من أعظم أسرار سيرة نبينا محمد-صلى الله عليه وسلم- أنها تمتاز عن سير سائر العظماء بأنها لا تُسْتَنْفَد مهما كتب فيها من كتب؛ فسير العظماء -على الجملة- يقوم بأمرها، ويغني في شأنها أن تكتب مرة أو مرات، ثم تستنفد معانيها، ويصير الحديث فيها معاداً مكروراً تغني فيه أعمال الأسلاف عن محاولات الأخلاف.
أما سيرة نبينا محمد-صلى الله عليه وسلم-فلقد عُني المؤرخون والرواة بها منذ صدر الإسلام حتى يومنا هذا، وصدر فيها كثير من الكتب في عدة لغات، ومع ذلك لم تخْلَق جِدَّتُها، بل إنها لتزداد -على كثرة ما يكتب فيها- جِدَّة وَرُوَاءَاً.
وليس ذلك -على خَطره- بدعاً من طبيعة الأشياء؛ فمحمد هو رسول الله، وخاتم النبيين، وقد أنزل الله إليه الكتاب؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور.
والناس المعنيُّون بهذا هم كلُّ الناس منذ بُعث حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وهؤلاء -بسنة الله في الكون- في تجدد دائم، وتطور متصل، تَجِدُّ لهم دائماً أحوال، وتحدث لهم أحداث يكون لها آثارها في معاشهم وعلومهم وتفكيرهم.
فليس عجباً أن يلتمس المؤمنون في الكتاب المنزل، وفي التفسير الحيّ لهذا الكتاب الذي عاشه خاتم النبيين بسيرته - هدياً لهم فيما يستقبلون كل يوم من شأن.
وليس عجباً أن يلتمس غيرُ المؤمنين في هذا الكتاب المنزَّل وفي تفسيره الحي من سيرة الرسول ما عسى أن يقعوا فيه على مسافة خُلف بين الدين والتطوُّر، أو بين الكتاب والسنة أو السيرة.
وكذلك عُنِيَ المؤمنون وغير المؤمنين بالسيرة عناية تختلف من حيث الحقيقة والخرافة، ومن حيث الإنصاف والجور.
والسيرة الشريفة -مع هذه العناية المتصلة- جديدةٌ خصبة، ملهمة موحية؛ لأنها الترجمة الحية العملية لمبادئ الإسلام العليا، فهي تتراءى للعقول والنفوس قوية مشرقة لم يُبلِ جِدَّتها تقادمُ العهد، ولا تطاول الزمان.
وما أكثر ما تَجنَّى خصوم الإسلام على سيرة نبيه جهلاً أو جحوداً بالحق، فلم ينالوا منها نيلاً، بل ربما دفع تجنِّيهم بعضَ الباحثين إلى العناية بها؛ تَلَمُّساً للإنصاف، وطلباً للمعرفة؛ فهدوا بذلك على الخير، أو شيء منه.
ولعل من صلاة الله على نبيه أن أوزع الناس هذه العناية بسيرته سواء منهم من أقرَّ به، أو من أنكر نبوته؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- نور، ومن عرف النور فقد شهد لنفسه بالاستبصار، ومن أنكره فقد شهد على نفسه بالعمى، والنور على الحالين نور.
وقد رفع الله ذكر محمد، فقرن اسمه باسمه في الأذان والصلوات، ووصفه في أكثر من موضع من القرآن بصفات تجعله في المرتبة التي لا تُنال.
(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف:157).
وليس مصدرُ العناية بالسيرة إرضاءَ حاجةِ العلم والدرس فحسب؛ فحاجات المؤمنين إلى هذا الينبوع من الحب والهدى أشد من حاجات العلماء إلى البحث والدرس، وكلُّ من في قلبه نفحة إيمان يجد نفسه مهما فرّط في الدِّين مشدوداً إلى محمد، راغباً في أن تزداد هذه العلاقة وثاقة.
وحب رسول الله من حب الله، فليس محمد -على شأنه الأجل- إلا بشراً رسولاً(1).
ومن أعظم أسرار السيرة النبوية أن لها أبلغ الأثر في تقويم السلوك، وتربية العواطف الشريفة؛ فإنها المرآة التي تنعكس منها تلك الصورة التي تعد -بحقٍّ- أرقى صورة للحياة البشرية؛ حيث كان النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- يرسم بأقواله، وأعماله، وسائر تصرفاته - القدوة العليا التي يجب أن تهدف إليها جهود البشر في سيرهم نحو الكمال المنشود.
إن ثلاثة وعشرين عاماً هي جملة السنين التي عاشها محمد-صلى الله عليه وسلم-نبياً رسولاً قد لا تكون في مقياس الزمن شيئاً مذكوراً إذا قيست إلى ما قضته البشرية من حقب متطاولة، وأجيال متعاقبة.
ولكنها في مجال التربية، والإصلاح، ورسم قواعد السلوك البشري الفاضل، ووضع المعالم، والحدود لحياة الإنسان كما يحب رب الإنسان، وبما يحقق الغاية من وجوده، ويكفل لها الحياة السعيدة الكريمة - لأرجح في الميزان من كل ما غَبَر من حقب وأجيال؛ ذلك أن بركات هذا النبي لا تكاد تحصر ولا تحصى(2).
وإن منها لبركة الوقت التي نال أمته منها أوفر الحظ والنصيب؛ فنالت من الأعمال، والعلوم، والأخلاق، والحكمة -في وقت قصير- ما لم تنله أمة من الأمم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: "فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحدَّ وأسدَّ عقلاً، وأنهم ينالون من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال"(3).
وقال –رحمه الله- في موضع آخر: "فهدى الله الناس ببركة نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وبما جاء به من البينات والهدى، هداية جلَّت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفة العارفين، حتى حصل لأمته المؤمنين عموماً، ولأهل العلم منهم خصوصاً من العلم النافع، والعمل الصالح، والأخلاق العظيمة، والسنن المستقيمة ما لو جمعت حكمة سائر الأمم علماً وعملاً الخالصة من كل شوب إلى الحكمة التي بعث بها لتفاوتا تفاوتاً يمنع معرفة قدر النسبة بينهما، فلله الحمد كما يحب ربنا ويرضى، ودلائل هذا وشواهده ليس هذا موضعها"(4).
ومن أعظم ما امتازت به سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها معلومة للناس بجميع أطوارها، متجلية لهم دخائلها من كل مناحيها.
ولا ريب أن ذلك من أعظم أسرار عظمتها وخلودها؛ إذ لا يصح أن تكون سيرة أحد من الناس قدوة لغيره إلا أن تكون واضحة معلومة منزهة عن العيوب والمثالب.
ولقد ضبط العلماء سيرته -عليه الصلاة والسلام- وأتوا على دقائق قد لا تخطر بالبال.
ولو استعرض القارئ فهرس أحد الكتب التي اعتنت بسيرته وشمائله لوجد ذلك واضحاً جليا(5).
ولهذا فإنه -عليه الصلاة والسلام- لم يكن ليتحرج من نقل ما يقوم به من أعمال حتى في داخل منزله؛ فترى -من جراء ذلك- كثرة الأحاديث التي ترويها أمهات المؤمنين عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ولم يكن ذلك إلا لأن سِرَّه كعلانيته، وظلمةَ ليلِه كضوء نهاره؛ فسيرته معلومة منذ ولادته إلى ساعة وفاته